يمكن القول بأن التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني هذه (العبادة) ؛ لأن الدين استعانة وعبادة، كما يشير إليه قوله (تعالى): [color=green](( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) [الفاتحة: 5]، وقد ورد التوكل في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، ومن ذلك: قوله (تعالى): ((وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [المائدة: 23]، وقوله (تعالى): [color:657f=green:657f]((وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)) [الطلاق: 3].
وقال (تعالى) عن أوليائه: [color=green](( رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ)) [الممتحنة: 4]، وقال (تعالى) لرسوله: ((فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ)) [النمل: 79]، وكذلك: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ))[color:657f=green:657f] [الفرقان: 58].
[color=maroon]وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منها: [color:657f=black:657f]
أ- في الصحيحين: حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يَكْتَوون، وعلى ربهم يتوكلون) [1].
ب- وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: ( (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم، حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: [color=green]((إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ))[color:657f=green:657f] ) [2].
ج- وفي الترمذي عن عمر (رضي الله عنه) مرفوعاً: ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) [3].
[color=maroon]تعريف التوكل بمعناه الصحيح: التوكل عمل قلبي من أعمال القلوب، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه: [color:657f=maroon:657f]أ -فمن ذلك: ما ذكره الإمام ابن القيم (رحمه الله) عن التوكل: (هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، وتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه) [4].
ب- ومن ذلك: ما نقله الشيخ محمد العثيمين (حفظه الله) في شرحه لكتاب التوحيد، حيث قال: (التوكل: هو الاعتماد على الله (سبحانه وتعالى) في جلب المطلوب وزوال المكروه، مع فعل الأسباب المأذون فيها) [5].
[color=maroon]تباين الخلق في توكلهم على الله (سبحانه) وأفضلهم في ذلك: وضّح الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) هذه المسألة أتم توضيح بقوله: (فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل، وإن تباين متعلق توكلهم: [color:657f=maroon:657f]فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغاً عن الناس.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه: من رزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد.. ونحو ذلك.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش ؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه.
فأفضل التوكل: التوكل في الواجب أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية ؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِنْ متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف) [6].
التوكل وأنواعه:
1- توكل الموحدين الصادقين: وحقيقته: الاعتماد على الله (عز وجل) وحده، والثقة بكفايته مع فعل الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها ؛ فخالق الأسباب ومسببها هو الله وحده.
2- التوكل الشركي، وهو نوعان:
أ - أكبر، وهو: ( الاعتماد الكلي على الأسباب، واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً في جلب المنفعة أو دفع المضرة، وهذا من الشرك الأكبر) [7].
ب - الشرك الأصغر، وهو: ( الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه.. وغير ذلك، من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه مجرد سبب، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب، ولهذا تجد أحدهم يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب أو من يقرر الراتب اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر) [8].
3- التوكل الجائز: (وهو أن يُوكِّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكِّل بذلك بعض مطلوبه، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده ) [9] ( كمن وكّل شخصاً في شراء شيء أو بيعه، فهذا لا شيء فيه، لأنه اعتمد عليه، وكأنه يشعر أن المنزلة العليا له فوقه، لأنه جعله نائباً عنه، وقد وكل النبي علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية) [10]، ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور، وهو لا يفعل ذلك إلا بإعانة الله له، فرجع الأمر كله لله وحده.
ضوابط الأخذ بالأسباب: الأخذ بالأسباب لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من التعلق بها والاعتماد عليها، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:
1 - (الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب، بل تُتعاطى من غير ركون إليها، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع: لم يحصل المقصود، وهو (سبحانه) ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق) [11].
2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا علم، أو بما يخالف الشريعة: كان مبطلاً في إثباته، آثماً في اعتقاده) [12] 2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا.
3 - (أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً، إلا أن يكون مشروعاً، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يتقرب إلى الله (عز وجل) بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها ) [13].
4 - (إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً: فلا يجوز مباشرته ولا الأخذ به، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله (عز وجل)، فلم يبق سبب سواه، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق) [14].
5 - (إن كان السبب مباحاً، نُظر: هل يضعف القيام به التوكل أو لا يضعفه، فإن أضعفه، وفرق على العبد قلبه، وشتت همه: فترْكه أولى، وإن لم يضعفه: فمباشرته أولى ؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به، فلا تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله (عز وجل)، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة) [15].
(إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل، فمن عطل الأسباب المأمور بها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً أو عجزه توكلاً) [16].
(وسر التوكل وحقيقته هو: اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله ( توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء) [17].
مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه: بعد أن اتضحت حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه، فيجدر بنا الآن أن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا العمل العظيم من أعمال القلوب، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيء على بعض أبناء الأمة في عجزهم، أو تعلقهم بغيرهم، أو تركهم لما يجب الأخذ به..
وما إلى ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة، هذا..
ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف، وظهور الفِرَق: أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف، يضاف إلى ذلك: ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية، التي لا تربط النتائج إلا بالمادة المحسوسة، وتلغي جانب الغيب والإيمان بالله (عز وجل) وقضائه وقدره وملكه وقهره وعظمته..
وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة، ولكن لما وافق هذا جهلاً عند بعض المسلمين بحقيقة هذا الدين وأصوله: نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة.
وفي الفقرات التالية: أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا الجانب المهم من جوانب العقيدة، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا ؛ حتى نتجنبه، ونحذر منه.
ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي:
1- النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب، والذين وقعوا في هذا الانحراف على صنفين:
[color=maroon]أ- صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب والأمر واضح عنده بلا شبهة، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه، فهذا عجزه توكل، وتوكله عجز، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله (عز وجل)، ولايبرر شهوته بشبهة، وفي ذلك يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى): [color:657f=black:657f](وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب: المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص.
ومنه: اشتباه التوكل بالراحة، وإلقاء حمل الكَلِّ فيظن صاحبه أنه متوكل، وإنما هو عامل على عدم الراحة..) [18].
وقال (تعالى) عن أوليائه: [color=green](( رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ)) [الممتحنة: 4]، وقال (تعالى) لرسوله: ((فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ)) [النمل: 79]، وكذلك: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ))[color:657f=green:657f] [الفرقان: 58].
[color=maroon]وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منها: [color:657f=black:657f]
أ- في الصحيحين: حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يَكْتَوون، وعلى ربهم يتوكلون) [1].
ب- وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: ( (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم، حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: [color=green]((إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ))[color:657f=green:657f] ) [2].
ج- وفي الترمذي عن عمر (رضي الله عنه) مرفوعاً: ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) [3].
[color=maroon]تعريف التوكل بمعناه الصحيح: التوكل عمل قلبي من أعمال القلوب، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه: [color:657f=maroon:657f]أ -فمن ذلك: ما ذكره الإمام ابن القيم (رحمه الله) عن التوكل: (هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، وتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه) [4].
ب- ومن ذلك: ما نقله الشيخ محمد العثيمين (حفظه الله) في شرحه لكتاب التوحيد، حيث قال: (التوكل: هو الاعتماد على الله (سبحانه وتعالى) في جلب المطلوب وزوال المكروه، مع فعل الأسباب المأذون فيها) [5].
[color=maroon]تباين الخلق في توكلهم على الله (سبحانه) وأفضلهم في ذلك: وضّح الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) هذه المسألة أتم توضيح بقوله: (فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل، وإن تباين متعلق توكلهم: [color:657f=maroon:657f]فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغاً عن الناس.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه: من رزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد.. ونحو ذلك.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش ؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه.
فأفضل التوكل: التوكل في الواجب أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية ؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِنْ متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف) [6].
التوكل وأنواعه:
1- توكل الموحدين الصادقين: وحقيقته: الاعتماد على الله (عز وجل) وحده، والثقة بكفايته مع فعل الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها ؛ فخالق الأسباب ومسببها هو الله وحده.
2- التوكل الشركي، وهو نوعان:
أ - أكبر، وهو: ( الاعتماد الكلي على الأسباب، واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً في جلب المنفعة أو دفع المضرة، وهذا من الشرك الأكبر) [7].
ب - الشرك الأصغر، وهو: ( الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه.. وغير ذلك، من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه مجرد سبب، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب، ولهذا تجد أحدهم يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب أو من يقرر الراتب اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر) [8].
3- التوكل الجائز: (وهو أن يُوكِّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكِّل بذلك بعض مطلوبه، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده ) [9] ( كمن وكّل شخصاً في شراء شيء أو بيعه، فهذا لا شيء فيه، لأنه اعتمد عليه، وكأنه يشعر أن المنزلة العليا له فوقه، لأنه جعله نائباً عنه، وقد وكل النبي علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية) [10]، ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور، وهو لا يفعل ذلك إلا بإعانة الله له، فرجع الأمر كله لله وحده.
ضوابط الأخذ بالأسباب: الأخذ بالأسباب لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من التعلق بها والاعتماد عليها، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:
1 - (الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب، بل تُتعاطى من غير ركون إليها، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع: لم يحصل المقصود، وهو (سبحانه) ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق) [11].
2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا علم، أو بما يخالف الشريعة: كان مبطلاً في إثباته، آثماً في اعتقاده) [12] 2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا.
3 - (أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً، إلا أن يكون مشروعاً، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يتقرب إلى الله (عز وجل) بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها ) [13].
4 - (إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً: فلا يجوز مباشرته ولا الأخذ به، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله (عز وجل)، فلم يبق سبب سواه، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق) [14].
5 - (إن كان السبب مباحاً، نُظر: هل يضعف القيام به التوكل أو لا يضعفه، فإن أضعفه، وفرق على العبد قلبه، وشتت همه: فترْكه أولى، وإن لم يضعفه: فمباشرته أولى ؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به، فلا تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله (عز وجل)، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة) [15].
(إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل، فمن عطل الأسباب المأمور بها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً أو عجزه توكلاً) [16].
(وسر التوكل وحقيقته هو: اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله ( توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء) [17].
مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه: بعد أن اتضحت حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه، فيجدر بنا الآن أن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا العمل العظيم من أعمال القلوب، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيء على بعض أبناء الأمة في عجزهم، أو تعلقهم بغيرهم، أو تركهم لما يجب الأخذ به..
وما إلى ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة، هذا..
ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف، وظهور الفِرَق: أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف، يضاف إلى ذلك: ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية، التي لا تربط النتائج إلا بالمادة المحسوسة، وتلغي جانب الغيب والإيمان بالله (عز وجل) وقضائه وقدره وملكه وقهره وعظمته..
وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة، ولكن لما وافق هذا جهلاً عند بعض المسلمين بحقيقة هذا الدين وأصوله: نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة.
وفي الفقرات التالية: أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا الجانب المهم من جوانب العقيدة، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا ؛ حتى نتجنبه، ونحذر منه.
ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي:
1- النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب، والذين وقعوا في هذا الانحراف على صنفين:
[color=maroon]أ- صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب والأمر واضح عنده بلا شبهة، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه، فهذا عجزه توكل، وتوكله عجز، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله (عز وجل)، ولايبرر شهوته بشبهة، وفي ذلك يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى): [color:657f=black:657f](وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب: المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص.
ومنه: اشتباه التوكل بالراحة، وإلقاء حمل الكَلِّ فيظن صاحبه أنه متوكل، وإنما هو عامل على عدم الراحة..) [18].