ما هي علاقة الماضي بالمستقبل؟ هل هي علاقة سببية؟ وأي منهما الذي يؤثر على الآخر؟ هل الماضي ينتج المستقبل أم أن المستقبل هو الذي يستدعي الماضي؟ وماذا يمكن للعلم أن يقدم في هذا المجال؟ أسئلة كثيرة تدور أو يدور مثلها أو بعضها على الأقل في ذهن من يشتغل بالتنبؤ العلمي بالظواهر والأحداث المختلفة. ومدار هذه الأسئلة حول مدى إمكانية التنبؤ بالمستقبل.
وحول الشروط التي يجب توافرها في أي نموذج يسعى لتحقيق ذلك - لا شك أن التنبؤ بجميع تفاصيل المستقبل أمرٌ لا يعلمه إلا الله, ولكن لا شك أيضا أن معرفة بعض هذه التفاصيل أمرٌ مقدور للبشر وشواهد ذلك أكثر من أن تحصى خذ مثلا تنبؤك بحدوث الأشياء وفقا للسنن الثابتة المعروفة كالتنبؤ بغليان الماء عند رفع درجة حرارته إلى 100 درجة مئوية, أو تنبؤك بولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل. إن هذا النوع من التنبؤ يسير وفقا لسنن ثابتة مستقرة لا تتبدل ولا تتغير, وهذه السنن تمكننا من القيام بعملية التنبؤ المذكورة آنفا, وقد تقول لي مهلا ليس هذا هو المقصود بالتنبؤ فإن التلازم السببي بين المقدمة والنتيجة فيما ذكرت أمر معلوم ضرورة ولا يعدو أن يكون تطبيقا لقانون طبيعي معروف, فأقول هذا صحيح ولكنه يدخل بالتعريف ضمن نطاق التنبؤ بالمستقبل, ولهذا السبب ذاته افتتن كثير ممن بهرهم التقدم العلمي وظنوا أن الكشوف العلمية لخفايا القوانين الطبيعية المختلفة تغني عن وجود خالق لهذا الكون يؤثر على مستقبل الأشياء ويأمر الأحداث فتنفعل وفقا لمشيئة, فلا مكان له في كونهم ما دام يمكن حساب وقوع الأحداث من عدم وقوعها بقوانين ثابتة ومعروفة لدى الجميع. وظن هؤلاء- لبرهة من الزمن- أنه بإمكانهم أن يعلموا مستقبل كل شيء إذا علموا القوانين التي تحكم كل شيء. ورغم أن العلماء في عصرنا هذا قد تراجعوا عن هذه الفكرة تماما - للأسباب التي سنُبيِّنها لاحقا - إلا أن البعض لا يزال متأثرًا بهذا الاتجاه - بشكل مباشر أو غير مباشر - وخصوصا أن الكثيرين من القائمين على الشؤون العلمية في الإعلام الغربي يسعون لترسيخ فكرة «كمال» العلم وقدرته اللامحدودة في حل المعضلات وذلك على المستوى النظري - في أقل تقدير.
غير أن التنبؤ بالمستقبل ارتبط في أغلب الأحيان بالنظم التي لا تحكمها قوانين محددة, مثل التنبؤ بالأحوال الجوية, أو التنبؤ بارتفاع أو انخفاض أسعار العملات في أسواق المال العالمية, أو بحدوث زلزال في بقعة من بقاع الأرض, وهذا النوع من التنبؤ يتقاسمه عاملان: عامل «مشاهد» نلحظ أثره بالتجربة ونحصي شواهده بالوسائل العلمية المختلفة ولكننا في الوقت نفسه نلاحظ قصوره عن الإحاطة بالظاهرة التي ندرسها في كثير من الحالات التي تخفق فيها توقعاتنا وتنبؤاتنا, وعامل آخر هو عامل «غيبي» لا تدركه حواسنا ولا أدواتنا ولكننا نؤمن به ونسلم بوجوده بوصفنا مسلمين, وبين هذين العالمين؛ عالم الغيب, وعالم الشهادة تقع جميع الظواهر والأحداث في الكون. ونحاول في هذا المقال أن نلقي بعض الضوء على ظاهرة كونية أدهشت العلماء لفترة من الزمن, يمكن أن تكون شاهدًا من عالم الشهادة على عالم الغيب, إذ إنها تؤثر في مستقبل الأشياء أشد التأثير, ومع ذلك فقد أعلن العلم عجزه عن تتبع آثارها أو التنبؤ بتداعياتها مهما طال به التقدم. ذلك أن الشأن لا يتعلق بتقدم العلم أو تأخره ولكن يتعلق بطبيعة الأشياء التي فطر الله الكون عليها, وبذلك يقر العلم ويسلم بوجود نوع من الظواهر لا يمكن للإنسان التنبؤ بها مع أنها محكومة بقوانين ومضبوطة بأنساق تهيمن عليها وتنفي عنها أي عشوائية مظنونة.
الحتمية العلمية واحتمالية «عدم التحديد»:
عندما كشف نيوتن اللثام عن قوانين الحركة - التي تنسب إليه - كان ذلك حدثا علميا كبيرا, أدى إلى التساؤل عما يمكن أن يقدمه العلم لفهم الكون ومعرفة أسراره. وأدى هذا الحدث العلمي الضخم إلى تطرف بعض العلماء - الذين جاءوا بعد نيوتن - في تصورهم عن مستقبل العلم, وما يمكن أن يؤول إليه الحال إذا ما تم الكشف عن جميع القوانين التي تنظم شؤون الكون, وتصور بعضهم أن المسألة مسألة وقت وأن هذا الكون يمكن تشبيهه بساعة ضخمة تنتظر أن يكشف عن القوانين التي تحكمها ليصبح التنبؤ بالأحداث التي تقع فيه بعد ذلك أمرًا واضحا ويسيرًا, مثل عملية التنبؤ باتجاه حركة عقارب الساعة! وكما أن الساعة لا تملك إلا أن تسير إلى الأمام بالطريقة المعروفة فكذلك الكون لا يملك إلا أن يسير وفق قوانين محددة وواضحة, وما عليك إلا أن تكتشف هذه القوانين لتعلم مستقبل الكون, بما في ذلك طبعا مستقبل الكوكب الذي نعيش عليه والظواهر الطبيعية التي تحكمه من أمطار وزلازل وبراكين وغير ذلك. بل إن العالم الفرنسي لابلاس Pierre Simon de Laplace (1749-1827م) الذي تأثر باكتشاف قوانين نيوتن الحتمية ذهب إلى أبعد من هذا, فقد زعم أنه يمكن أيضًا التنبؤ بمستقبل الإنسان وأفعاله (في نسخة متطرفة من هذه النظرية!!) وذلك بشرط المعرفة الكاملة للحالة الراهنة لكل جزء من أجزاء الكون, وسميت هذه النظرية آنذاك بعقيدة: الحتمية العلمية (Determinism Scientific) كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر, واستمر ذلك التصور الحتمي للكون سائدا حتى أوائل القرن العشرين حينما أعلن العالم الألماني هيزنبرغ Heisenberg في العام 1926م عن اكتشاف مبدأ «عدم التحديد Uncertainty Principle» والذي يقضي باستحالة معرفة مكان وسرعة الجسيم Particle بشكل دقيق وفي آن واحد, فكلما زادت دقة معرفتنا بمكان الجسيم, قلت الدقة في معرفة سرعته, والعكس صحيح, لقد هز مبدأ عدم التحديد العلماء وقلب المفاهيم الفيزيائية رأسا على عقب, فلم يعد بإمكان العلماء نظريا - وليس عمليا فحسب - أن يتنبأ بتصريف جسيم ضئيل كالإلكترون مثلا, بل لم يستطع العلماء حتى الآن إيجاد تفسير مادي معقول ومتفق عليه لدلالات هذا المبدأ العجيب, لقد وضع مبدأ عدم التحديد حدًّا للمعرفة الإنسانية, وأدخل الاحتمالات إلى عالم الفيزياء, بل قل - إن شئت: أدخل الفيزياء الحديثة إلى عالم الاحتمالات, وكان من آثاره نشوء فيزياء الكم Quantum physics والتي يمثل هذا المبدأ أحد الدعائم الرئيسة لها. وكان من آثاره أيضا أن اهتزت عقيدة الحتمية العلمية - التي أشرنا إليها - هزة عنيفة, ومارت الأرض من تحت أقدامها, فها هو «العلم» الذي اتكأت عليه يقول على لسان مبدأ عدم التحديد: إن هناك نظما وظواهر لا يمكن معرفة حالتها الراهنة (حاضرها) على وجه التحديد من حيث المبدأ, فضلا عن معرفة مستقبلها وما ستؤول إليه!
نظرية الفوضى:
ولم يلبث العلم إلا قليلا حتى كشف لنا عن ظواهر أخرى عجيبة لعبت دورًا مهما في تصورنا عن مستقبل العلم وبالذات فيما يخص عقيدة الحتمية العلمية. وسميت هذه الظواهر بالظواهر «الفوضوية» نسبة إلى «نظرية الفوضى Chaos theory» وسيرى القارئ أنها أبعد ما تكون عن الفوضى وأقرب ما تكون إلى النظام والانضباط(يبدو أن العقلية الغربية «العلمية» قررت منحها هذا الاسم حتى يكون ذلك ردعًا لها ولأمثالها من الظواهر الأخرى التي تستعصي على فكرة تأليه الإنسان وقدرته على «قهر» الطبيعة والسيطرة عليها), ولكنني مضطر لاستخدام المصطلح نفسه بعد أن أصبح عَلَمًا على هذه الظاهرة. ويمثل اكتشاف الظواهر الفوضوية الضربة الثانية والقاضية على عقيدة الحتمية العلمية بعد مبدأ عدم التحديد, ورغم أن اكتشاف هذه الظواهر يرجع إلى العام 1903م على يد العالم الرياضي بوينكير Poincare, إلا أن الفضل في تسليط الضوء عليها وإحياء البحث فيها من جديد يعود إلى عالم الأرصاد إدوارد لورنز Edward Lorenz الذي أعاد اكتشافها في العام 1961م حينما كان يعمل على صياغة نموذج رياضي للتنبؤ بحالة الطقس. حاول لورنز باستخدام حاسبه البدائي أن يتنبأ بحركة الريح في الأيام المقبلة وذلك بواسطة نموذج يحتوي على عدد من المعادلات الرياضية - جريًا على ما يحدث عادة في السلاسل الزمنية - بافتراض وجود علاقة بين حركة الريح اليوم وحركتها في اليوم التالي. وبعد صياغة هذه العلاقة رياضيا, فإنه يمكن تغذية الحاسب بالبيانات المتوفرة حول حركة الريح اليوم, لنحصل على تنبؤ بالحركة في اليوم التالي. وباستخدام النتيجة المتنبأ بها لحركة الريح في الغد يمكن التنبؤ بالحركة ليوم بعد غد, وهكذا فإنه بتغذية الحاسب ببيانات اليوم يمكن التنبؤ بحركة الريح على مدى شهر أو أكثر, كانت الأمور تسير على ما يرام - في تصور لورنز على أقل تقدير - إلى أن أراد ذات يوم أن يدرس جزءًا معيّنًا من السلسلة الزمنية التي لديه بشيء أكثر من التفصيل, وحيث إنه قد أنتج هذه السلسلة من قبل كما أسلفنا, فإنه قرر أن يأخذ رقما من منتصف السلسلة ويغذي به الحاسب الآلي مفترضا أن التنبؤات التي سيحصل عليها ستكون موافقة تماما لما حصل عليه من قبل لأن هذه العملية هي التي كان يفعلها الحاسب الآلي تلقائيا ليحصل على قيم التنبؤات السابقة, الفرق الآن فقط هو أنه قام بإدخال المعلومات يدويا بدلًا من أن تكون تغذيتها تلقائيا. توقع لورنز أن يحصل على نفس النتائج السابقة والمتعلقة بالفترة التي يدرسها.. غير أن الذي حدث شيء آخر تماما! لاحظ لورنز أن النموذج بدأ يعطي نتائج مختلفة قليلا - في أول الأمر - عن النتائج السابقة.. وأن هذا الاختلاف يزداد شيئا فشيئا حتى لا يكاد يلمس أي تشابه بين النتائج الحالية والنتائج السابقة, وبعد البحث والتحري اكتشف لورنز أن الفرق الوحيد الذي يمكن أن يعزى إليه هذا الاختلاف الكبير في النتائج يكمن في البيانات الأولية التي غذيت بهما التجربتان. لقد كانت البيانات المدخلة في التجربة الأولى تؤخذ تلقائيا من الحاسب الآلي وهذا يعني أنها صحيحة لستة أرقام عشرية، بينما كانت البيانات المدخلة في التجربة الثانية, لأن الطابعة المتصلة بالحاسب كانت لا تطبع أكثر من 3 أرقام عشرية، لقد كان التقريب طفيفا جدًّا. لم يكن يتصور أن هذا التقريب سيكون له أي أثر يذكر في إحداث فرق بين نتائج التجربتين, فضلا عن أن يكون سببا في تباين النتائج بشكل هائل وغير متوقع في المراحل المتقدمة من السلسلة الزمنية.
لقد كشفت هذه التجربة عن وجود نوع من النظم الحتمية (من حيث إنها تقوم على عدد من المعادلات الرياضية المحددة) تتأثر كثيـرًا بالظروف الأولية التي تغذى بها, بحيث يصبح تتبعها والتنبؤ بنتائجها على المدى البعيد ضربا من المستحيل. ويمثل عادة لهذه النظم - بما يعرف بـ «أثر الفراشة» Butterfly effect وهو كيف أن خفق فراشة لجناحيها في طوكيو يترتب عليه حدوث إعصار في نيويورك!!.. فبالرغم من أن تأثير الهواء الذي تدفعه الفراشة بجناحها ضئيل جدًّا, إلا أن تراكماته وتداعياته تتضاعف كلما مر الزمن لتكون أو لتساهم في تكوين حدث ضخم كالإعصار على المدى البعيد!! هذه النظم الحتمية في إطارها العام والشديدة الحساسية في تأثرها بحالتها الأولية سميت بالنظم «الفوضوية», ولعله كان من الأنسب لها أن تسمى بالنظم المنضبطة لأن «الفوضى» الناشئة من هذه النظم ليست صفة ذاتية فيها وإنما هي بسبب عجزنا عن قياس حالتها الأولية, بدقة كافية. وعلى العكس مما يوحيه الاسم فإن نظرية الفوضى كشفت عن النظام والدقة المختبئين وراء كثير من الظواهر التي تبدو عشوائية في أعيننا لأول وهلة, وأثبتت لنا هذه النظرية أن عدم قدرتنا نحن البشر على معرفة مستقبل الأشياء لا يعني أنها عشوائية, بل إن هذا فقط يعكس عدم قدرتنا على الإحاطة بظروفها ومعطياتها الأولية, ولكي تتضح الصورة في صعوبة التنبؤ بالنظم الفوضوية سوف نستعرض »!
وحول الشروط التي يجب توافرها في أي نموذج يسعى لتحقيق ذلك - لا شك أن التنبؤ بجميع تفاصيل المستقبل أمرٌ لا يعلمه إلا الله, ولكن لا شك أيضا أن معرفة بعض هذه التفاصيل أمرٌ مقدور للبشر وشواهد ذلك أكثر من أن تحصى خذ مثلا تنبؤك بحدوث الأشياء وفقا للسنن الثابتة المعروفة كالتنبؤ بغليان الماء عند رفع درجة حرارته إلى 100 درجة مئوية, أو تنبؤك بولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل. إن هذا النوع من التنبؤ يسير وفقا لسنن ثابتة مستقرة لا تتبدل ولا تتغير, وهذه السنن تمكننا من القيام بعملية التنبؤ المذكورة آنفا, وقد تقول لي مهلا ليس هذا هو المقصود بالتنبؤ فإن التلازم السببي بين المقدمة والنتيجة فيما ذكرت أمر معلوم ضرورة ولا يعدو أن يكون تطبيقا لقانون طبيعي معروف, فأقول هذا صحيح ولكنه يدخل بالتعريف ضمن نطاق التنبؤ بالمستقبل, ولهذا السبب ذاته افتتن كثير ممن بهرهم التقدم العلمي وظنوا أن الكشوف العلمية لخفايا القوانين الطبيعية المختلفة تغني عن وجود خالق لهذا الكون يؤثر على مستقبل الأشياء ويأمر الأحداث فتنفعل وفقا لمشيئة, فلا مكان له في كونهم ما دام يمكن حساب وقوع الأحداث من عدم وقوعها بقوانين ثابتة ومعروفة لدى الجميع. وظن هؤلاء- لبرهة من الزمن- أنه بإمكانهم أن يعلموا مستقبل كل شيء إذا علموا القوانين التي تحكم كل شيء. ورغم أن العلماء في عصرنا هذا قد تراجعوا عن هذه الفكرة تماما - للأسباب التي سنُبيِّنها لاحقا - إلا أن البعض لا يزال متأثرًا بهذا الاتجاه - بشكل مباشر أو غير مباشر - وخصوصا أن الكثيرين من القائمين على الشؤون العلمية في الإعلام الغربي يسعون لترسيخ فكرة «كمال» العلم وقدرته اللامحدودة في حل المعضلات وذلك على المستوى النظري - في أقل تقدير.
غير أن التنبؤ بالمستقبل ارتبط في أغلب الأحيان بالنظم التي لا تحكمها قوانين محددة, مثل التنبؤ بالأحوال الجوية, أو التنبؤ بارتفاع أو انخفاض أسعار العملات في أسواق المال العالمية, أو بحدوث زلزال في بقعة من بقاع الأرض, وهذا النوع من التنبؤ يتقاسمه عاملان: عامل «مشاهد» نلحظ أثره بالتجربة ونحصي شواهده بالوسائل العلمية المختلفة ولكننا في الوقت نفسه نلاحظ قصوره عن الإحاطة بالظاهرة التي ندرسها في كثير من الحالات التي تخفق فيها توقعاتنا وتنبؤاتنا, وعامل آخر هو عامل «غيبي» لا تدركه حواسنا ولا أدواتنا ولكننا نؤمن به ونسلم بوجوده بوصفنا مسلمين, وبين هذين العالمين؛ عالم الغيب, وعالم الشهادة تقع جميع الظواهر والأحداث في الكون. ونحاول في هذا المقال أن نلقي بعض الضوء على ظاهرة كونية أدهشت العلماء لفترة من الزمن, يمكن أن تكون شاهدًا من عالم الشهادة على عالم الغيب, إذ إنها تؤثر في مستقبل الأشياء أشد التأثير, ومع ذلك فقد أعلن العلم عجزه عن تتبع آثارها أو التنبؤ بتداعياتها مهما طال به التقدم. ذلك أن الشأن لا يتعلق بتقدم العلم أو تأخره ولكن يتعلق بطبيعة الأشياء التي فطر الله الكون عليها, وبذلك يقر العلم ويسلم بوجود نوع من الظواهر لا يمكن للإنسان التنبؤ بها مع أنها محكومة بقوانين ومضبوطة بأنساق تهيمن عليها وتنفي عنها أي عشوائية مظنونة.
الحتمية العلمية واحتمالية «عدم التحديد»:
عندما كشف نيوتن اللثام عن قوانين الحركة - التي تنسب إليه - كان ذلك حدثا علميا كبيرا, أدى إلى التساؤل عما يمكن أن يقدمه العلم لفهم الكون ومعرفة أسراره. وأدى هذا الحدث العلمي الضخم إلى تطرف بعض العلماء - الذين جاءوا بعد نيوتن - في تصورهم عن مستقبل العلم, وما يمكن أن يؤول إليه الحال إذا ما تم الكشف عن جميع القوانين التي تنظم شؤون الكون, وتصور بعضهم أن المسألة مسألة وقت وأن هذا الكون يمكن تشبيهه بساعة ضخمة تنتظر أن يكشف عن القوانين التي تحكمها ليصبح التنبؤ بالأحداث التي تقع فيه بعد ذلك أمرًا واضحا ويسيرًا, مثل عملية التنبؤ باتجاه حركة عقارب الساعة! وكما أن الساعة لا تملك إلا أن تسير إلى الأمام بالطريقة المعروفة فكذلك الكون لا يملك إلا أن يسير وفق قوانين محددة وواضحة, وما عليك إلا أن تكتشف هذه القوانين لتعلم مستقبل الكون, بما في ذلك طبعا مستقبل الكوكب الذي نعيش عليه والظواهر الطبيعية التي تحكمه من أمطار وزلازل وبراكين وغير ذلك. بل إن العالم الفرنسي لابلاس Pierre Simon de Laplace (1749-1827م) الذي تأثر باكتشاف قوانين نيوتن الحتمية ذهب إلى أبعد من هذا, فقد زعم أنه يمكن أيضًا التنبؤ بمستقبل الإنسان وأفعاله (في نسخة متطرفة من هذه النظرية!!) وذلك بشرط المعرفة الكاملة للحالة الراهنة لكل جزء من أجزاء الكون, وسميت هذه النظرية آنذاك بعقيدة: الحتمية العلمية (Determinism Scientific) كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر, واستمر ذلك التصور الحتمي للكون سائدا حتى أوائل القرن العشرين حينما أعلن العالم الألماني هيزنبرغ Heisenberg في العام 1926م عن اكتشاف مبدأ «عدم التحديد Uncertainty Principle» والذي يقضي باستحالة معرفة مكان وسرعة الجسيم Particle بشكل دقيق وفي آن واحد, فكلما زادت دقة معرفتنا بمكان الجسيم, قلت الدقة في معرفة سرعته, والعكس صحيح, لقد هز مبدأ عدم التحديد العلماء وقلب المفاهيم الفيزيائية رأسا على عقب, فلم يعد بإمكان العلماء نظريا - وليس عمليا فحسب - أن يتنبأ بتصريف جسيم ضئيل كالإلكترون مثلا, بل لم يستطع العلماء حتى الآن إيجاد تفسير مادي معقول ومتفق عليه لدلالات هذا المبدأ العجيب, لقد وضع مبدأ عدم التحديد حدًّا للمعرفة الإنسانية, وأدخل الاحتمالات إلى عالم الفيزياء, بل قل - إن شئت: أدخل الفيزياء الحديثة إلى عالم الاحتمالات, وكان من آثاره نشوء فيزياء الكم Quantum physics والتي يمثل هذا المبدأ أحد الدعائم الرئيسة لها. وكان من آثاره أيضا أن اهتزت عقيدة الحتمية العلمية - التي أشرنا إليها - هزة عنيفة, ومارت الأرض من تحت أقدامها, فها هو «العلم» الذي اتكأت عليه يقول على لسان مبدأ عدم التحديد: إن هناك نظما وظواهر لا يمكن معرفة حالتها الراهنة (حاضرها) على وجه التحديد من حيث المبدأ, فضلا عن معرفة مستقبلها وما ستؤول إليه!
نظرية الفوضى:
ولم يلبث العلم إلا قليلا حتى كشف لنا عن ظواهر أخرى عجيبة لعبت دورًا مهما في تصورنا عن مستقبل العلم وبالذات فيما يخص عقيدة الحتمية العلمية. وسميت هذه الظواهر بالظواهر «الفوضوية» نسبة إلى «نظرية الفوضى Chaos theory» وسيرى القارئ أنها أبعد ما تكون عن الفوضى وأقرب ما تكون إلى النظام والانضباط(يبدو أن العقلية الغربية «العلمية» قررت منحها هذا الاسم حتى يكون ذلك ردعًا لها ولأمثالها من الظواهر الأخرى التي تستعصي على فكرة تأليه الإنسان وقدرته على «قهر» الطبيعة والسيطرة عليها), ولكنني مضطر لاستخدام المصطلح نفسه بعد أن أصبح عَلَمًا على هذه الظاهرة. ويمثل اكتشاف الظواهر الفوضوية الضربة الثانية والقاضية على عقيدة الحتمية العلمية بعد مبدأ عدم التحديد, ورغم أن اكتشاف هذه الظواهر يرجع إلى العام 1903م على يد العالم الرياضي بوينكير Poincare, إلا أن الفضل في تسليط الضوء عليها وإحياء البحث فيها من جديد يعود إلى عالم الأرصاد إدوارد لورنز Edward Lorenz الذي أعاد اكتشافها في العام 1961م حينما كان يعمل على صياغة نموذج رياضي للتنبؤ بحالة الطقس. حاول لورنز باستخدام حاسبه البدائي أن يتنبأ بحركة الريح في الأيام المقبلة وذلك بواسطة نموذج يحتوي على عدد من المعادلات الرياضية - جريًا على ما يحدث عادة في السلاسل الزمنية - بافتراض وجود علاقة بين حركة الريح اليوم وحركتها في اليوم التالي. وبعد صياغة هذه العلاقة رياضيا, فإنه يمكن تغذية الحاسب بالبيانات المتوفرة حول حركة الريح اليوم, لنحصل على تنبؤ بالحركة في اليوم التالي. وباستخدام النتيجة المتنبأ بها لحركة الريح في الغد يمكن التنبؤ بالحركة ليوم بعد غد, وهكذا فإنه بتغذية الحاسب ببيانات اليوم يمكن التنبؤ بحركة الريح على مدى شهر أو أكثر, كانت الأمور تسير على ما يرام - في تصور لورنز على أقل تقدير - إلى أن أراد ذات يوم أن يدرس جزءًا معيّنًا من السلسلة الزمنية التي لديه بشيء أكثر من التفصيل, وحيث إنه قد أنتج هذه السلسلة من قبل كما أسلفنا, فإنه قرر أن يأخذ رقما من منتصف السلسلة ويغذي به الحاسب الآلي مفترضا أن التنبؤات التي سيحصل عليها ستكون موافقة تماما لما حصل عليه من قبل لأن هذه العملية هي التي كان يفعلها الحاسب الآلي تلقائيا ليحصل على قيم التنبؤات السابقة, الفرق الآن فقط هو أنه قام بإدخال المعلومات يدويا بدلًا من أن تكون تغذيتها تلقائيا. توقع لورنز أن يحصل على نفس النتائج السابقة والمتعلقة بالفترة التي يدرسها.. غير أن الذي حدث شيء آخر تماما! لاحظ لورنز أن النموذج بدأ يعطي نتائج مختلفة قليلا - في أول الأمر - عن النتائج السابقة.. وأن هذا الاختلاف يزداد شيئا فشيئا حتى لا يكاد يلمس أي تشابه بين النتائج الحالية والنتائج السابقة, وبعد البحث والتحري اكتشف لورنز أن الفرق الوحيد الذي يمكن أن يعزى إليه هذا الاختلاف الكبير في النتائج يكمن في البيانات الأولية التي غذيت بهما التجربتان. لقد كانت البيانات المدخلة في التجربة الأولى تؤخذ تلقائيا من الحاسب الآلي وهذا يعني أنها صحيحة لستة أرقام عشرية، بينما كانت البيانات المدخلة في التجربة الثانية, لأن الطابعة المتصلة بالحاسب كانت لا تطبع أكثر من 3 أرقام عشرية، لقد كان التقريب طفيفا جدًّا. لم يكن يتصور أن هذا التقريب سيكون له أي أثر يذكر في إحداث فرق بين نتائج التجربتين, فضلا عن أن يكون سببا في تباين النتائج بشكل هائل وغير متوقع في المراحل المتقدمة من السلسلة الزمنية.
لقد كشفت هذه التجربة عن وجود نوع من النظم الحتمية (من حيث إنها تقوم على عدد من المعادلات الرياضية المحددة) تتأثر كثيـرًا بالظروف الأولية التي تغذى بها, بحيث يصبح تتبعها والتنبؤ بنتائجها على المدى البعيد ضربا من المستحيل. ويمثل عادة لهذه النظم - بما يعرف بـ «أثر الفراشة» Butterfly effect وهو كيف أن خفق فراشة لجناحيها في طوكيو يترتب عليه حدوث إعصار في نيويورك!!.. فبالرغم من أن تأثير الهواء الذي تدفعه الفراشة بجناحها ضئيل جدًّا, إلا أن تراكماته وتداعياته تتضاعف كلما مر الزمن لتكون أو لتساهم في تكوين حدث ضخم كالإعصار على المدى البعيد!! هذه النظم الحتمية في إطارها العام والشديدة الحساسية في تأثرها بحالتها الأولية سميت بالنظم «الفوضوية», ولعله كان من الأنسب لها أن تسمى بالنظم المنضبطة لأن «الفوضى» الناشئة من هذه النظم ليست صفة ذاتية فيها وإنما هي بسبب عجزنا عن قياس حالتها الأولية, بدقة كافية. وعلى العكس مما يوحيه الاسم فإن نظرية الفوضى كشفت عن النظام والدقة المختبئين وراء كثير من الظواهر التي تبدو عشوائية في أعيننا لأول وهلة, وأثبتت لنا هذه النظرية أن عدم قدرتنا نحن البشر على معرفة مستقبل الأشياء لا يعني أنها عشوائية, بل إن هذا فقط يعكس عدم قدرتنا على الإحاطة بظروفها ومعطياتها الأولية, ولكي تتضح الصورة في صعوبة التنبؤ بالنظم الفوضوية سوف نستعرض »!